في مارس 1996، كانت رائحة الدم لا تزال عالقة في هواء الشرق الأوسط، بعد أسابيع من اغتيال إسحق رابين على يد متطرف إسرائيلي. جاء قادة العالم إلى شرم الشيخ ليعلنوا من فوق منصة البحر الأحمر أن «السلام سيستمر» رغم الدم. لكن ما سُمّي يومها مؤتمر "صانعي السلام" لم يصنع سلامًا، بل ثبّت قواعد الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وبدأ فصلًا جديدًا من الوهم: أن الأمن يمكن أن يُبنى على الظلم، وأن السلام يمكن أن يقوم على التفاوت في القوة لا على التوازن في الحق.
وبعد تسعةٍ وعشرين عامًا، اجتمع العالم في المدينة ذاتها، على الشاطئ ذاته، تحت الاسم ذاته: "مؤتمر السلام".
لكن البحر كان هذه المرة يشهد على حربٍ تجاوزت كل ما سبقها من فظائع، حرب السنتين التي قتلت فيها إسرائيل أكثر من سبعين ألف فلسطيني، ودمرت غزة عن بكرة أبيها، في أكبر عملية إبادة تشهدها المنطقة في العصر الحديث.
ومرة أخرى، جاءت الوفود لا لتبحث عن السلام، بل لتبحث عن صيغة جديدة لتجميل الاحتلال: التهدئة بدلًا من السلام، والاستقرار الإقليمي بدلًا من إقرار العدالة.
في عام 1996، كانت شرم الشيخ تحتضن مؤتمرًا دوليًا ضخمًا حمل اسم "صانعي السلام"، دعا إليه الرئيس المصري حسني مبارك بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي كان يتصرف كعرّابٍ للنظام الدولي الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. شارك في القمة الرئيس الروسي بوريس يلتسن، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، والمستشار الألماني هيلموت كول، والرئيس التركي سليمان ديميريل، والعاهل الأردني الملك حسين، والعاهل المغربي الملك الحسن الثاني، وملك البحرين حمد بن عيسى، والأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي، إلى جانب والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز.
كان المشهد أشبه بلوحة احتفالية بالنظام العالمي الذي وُلد لتوه. واشنطن تتوسط الجميع كإمبراطورية ترعى «السلام الأمريكي» وتوزع الأدوار على اللاعبين، والعرب يجلسون في مقاعد من يحاولون إقناع أنفسهم بأن هذا النظام سيضمن لهم مكانًا على الخريطة.
كان عنوان القمة «السلام»، لكن مضمونها الحقيقي كان الهيمنة، وكانت شرم الشيخ في تلك اللحظة تبدو كقصر زجاجي يعكس بريق القوة الأمريكية في أعلى تجلياتها.
في قمة 2025، لم تتغير واشنطن في الجوهر، وإن تغيّرت اللغة. لم تعد تتحدث عن «السلام» لأنها فقدت القدرة على ترويجه، بل صارت تتحدث عن «التهدئة» لتمنح إسرائيل فرصة لترميم صورتها بعد حرب الإبادة في غزة. إنها الآن تحاول أن تكرّس سلام الانتصار الإسرائيلي، لا سلام التعايش، وأن تحول الدم الفلسطيني المسفوك إلى مكسب سياسي في خريطة جديدة يرسمها البيت الأبيض ويمولها حلفاؤه في الإقليم.
واشنطن التي جاءت إلى شرم الشيخ عام 1996 لتكرّس سلام الوهم، جاءت إليها عام 2025 لتكرّس سلام الانتصار الإسرائيلي، وبين السلامين تمتد ثلاثة عقود من انهيار فكرة العدالة في السياسة الدولية، ومن انكشاف الازدواجية الغربية التي لم تعد حتى تحاول أن تتستر على انحيازها المطلق لإسرائيل.
ولعل خطاب ترامب في الكنيست قبل ساعة من قمة شرم الشيخ كان الترجمة الأكثر وضوحًا لهذا التحول.
لم يعد الرئيس الأمريكي يتحدث من موقع الوسيط، بل من موقع النبي السياسي الذي يرى في إسرائيل مركز العالم، وفي انتصارها خلاص الغرب من عقدة الهزيمة الأخلاقية. كان حديثه أقرب إلى إعلان عقيدة جديدة لا إلى عرض مبادرة، وكأن القمة التي انعقدت في شرم الشيخ لم تكن سوى ملحقٍ لمسرحٍ أكبر تُدار مشاهده من تل أبيب.
شرم الشيخ الثالثة؟
بين قمةٍ وُلدت من اغتيالٍ، وأخرى جاءت على أنقاض إبادة، يتبدّى أن مؤتمرات شرم الشيخ لم تكن يومًا صانعة للسلام، بل مرآةً لأوهامه.
القمتان لم يصمما لصناعة سلام حقيقي قائم على العدل، القمة الأولى صممت لإنقاذ الوضع الداخلي في إسرائيل، أما الثانية فصممت لفك العزلة الدولية عنها، زلا أحد عاقل يمكنه أن يتصور أنها قادرة حتى على صناعة «تهدئة».
قد تبدو القمتان المتباعدتان زمنًا كأنهما خاتمة لتاريخٍ واحد، لكن التاريخ لا يُغلق صفحاته بهذه البساطة. فكما أن شرم الشيخ الأولى كانت إعلانًا عن ولادة شرق أوسط أمريكي، وكما أن الثانية كشفت نهايته الأخلاقية والسياسية، فإن الثالثة ـ إن قُدّر لها أن تكون ـ لن تُعقد إلا على قاعدة جديدة تمامًا: قاعدة الوعي العربي لا الوصاية الأجنبية.
ربما تكون قمة شرم الشيخ الثالثة هي القمة التي لا يجلس فيها العربي في مقعد المتفرج، بل في موقع الفاعل. قمة لا تُدار فيها الكلمات من واشنطن، ولا تُكتب بياناتها في تل أبيب، بل تُصاغ فيها معادلة جديدة تقول إن الأمن لا يُبنى على الخضوع، وإن السلام لا يُصنع إلا بالعدل.
حينها فقط يمكن أن تكون شرم الشيخ ـ تلك المدينة التي شهدت احتفالات الوهم ومآتم الانكشاف ـ شاهدة على ميلاد مرحلة عربية مختلفة: مرحلة سلام الإرادة لا سلام الإملاء، ووعيٍ يرى أن القضية لم تكن يومًا في توقيع المعاهدات، بل في استعادة الروح.
-------------------------
بقلم: محمد حماد